بحث عن الروح
جرى حوار بين بعض الأصدقاء عن حقيقة الروح وقال البعض بأن الروح ليس لها في أجسادنا وجود وأن الإنسان هو نفسٌ تموت في انتهاء الأجل ولا شيء يؤكد في القرآن بأن الموت هو نزع للروح من الجسد
فقمت بهذا البحث استنباطاً من آيات الله
وأقول للإخوة المتحاورين الأعزاء عن حقيقة وجود الروح فينا نحن البشر
إن الجدل في موضوع الروح ليس مجدٍ ولا يغير اعتقاد المؤمن سواء اقتنع بهذا الرأي أو ذاك لأنه شأن إلهي
وأرى أن البعض غالباً مايطرح أفكاره متقيدً بالنص القرآني كما يأتي في كتاب الله ولا يعتمد طريقة الإستنباط في مقارنة وتقاطع بعض الآيات المكملة لبعضها الآخر في المعنى ولكل منا له أن يعتقد بما يجده صواباً بعد التفكر في آيات الله
{........ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44]
{... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ....} [النساء : 83]
فالإستنباط والتفكر وسيلتان لفهم مقصد الله في آياته القرآنية وليس النص الحرفي فقط
وهذا رأيي في هذا الموضوع
الحياة هي إلتقاء الروح بالجسد كما جاء في الآيتين التاليتين كنص قرآني ولا أجد أَفضَل من هذين النصين لنبني عليهما محاكمتنا لهذا الموضوع مع أننا لا نحتاج دائماً الى النص الصريح من الله بقدر ما نحتاج الى استنباط ذلك المعنى مما قاله تعالى حيث أحيا الله أبانا آدم بنفخة منه
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر : 29]
نفخة روح
وكذلك بث الروح في سيدنا عيسى بنفخة من الله في داخل أمه مريم وحدد الله في آية أخرى أن النفخ كان في رَحِمِها فأحيا الله سيدنا عيسى من بُييضة أنثى دون نطفة أب بأمره سبحانه وتعالى
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 91]
ولو أراد الله خلق الإثنان (آدم وعيسى) بدون أن يذكر لنا الروح فهو القادر على ذلك وما ذكرها لنا إلا ليؤكد ربط حياة الجسد بالروح
فلو قال الله عز وجل عن خلق آدم فإذا سويته ونفخت فيه الحياة فقعوا له ساجدين لكفى
ويحضرنا سؤال لماذا قال الله أنه نفخ الروح في مريم ولم يقل الله عن عيسى ونفخت فيه من روحنا
الجواب هو: إن الله يشير لنا أن نفخ الروح يكون في جسد ليس فيه حياة ولايمكن أن يحيا بدون هذه النفخة الربانية ولو كان خلية واحدة ولم يكن لعيسى جسد بل كان بُيَيضة في رحم أمه لا تصلح للحياة وقد تذهب مع دم الحيض، ولا يمكن أن تحيا لولا نفخة الروح الربانية هذه التي ذكرها الله لنا
وردت كلمة (نفخ) وجذورها اللغوية في القرآن 20 مرة لكن منها فقط 19 مرة تشير الى بث الحياة في الأجسام أو نزعها منها
أما الآية الوحيدة التي وردت في القرآن ولم يكن فيها النفخ يعني بث الروح والحياة في الأجساد فقد جاءت في سورة الكهف وهي تحكي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج {.........ِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف] 96
نستنتج منها ونستنبط من معناها أن النفخ في النار يؤجج أُوارها وتألقها فنفخ الهواء في جذوة النار الهامدة يؤججها فتعلو وتقوى لتقوم بمهمتها (وهنا كانت الغاية من النار إذابة الحديد) ثم لابد لهذه النار بعد ذلك أن تضعف وتهمد حتى تموت وتنطفئ في النهاية
كأن الله يشبه تلك النار بالإنسان فعندما تنفخ فيه الروح وهو جنين ضعيف في رحم أمه وتدب فيه الحياة والحركة ثم يكبر ويصبح انسان عالي الشأن وتشتد قوته وقد خلقه الله لمهمة أوكلها الله إليه وجب عليه أن ينهيها بنجاح قبل أن يضعف ويهمد ثم يموت
وقد جاء بعد ثلاث آيات من آية (قال انفخوا) في سورة الكهف آية توضح ارتباط النفخ في الأرواح
{۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف : 99]
لديَّ عدة مقارنات في كتاب الله بأن الكلمة أو الجملة التي يوافق عدد وجودها في القرآن الرقم 19 يكون فيها أمر إعجازي أو ذو قدسية يريدنا الله أن ننتبه إليه
(وجميع ما ورد في القرآن من جذور كلمة "نفخ" جميعها تقترن وتشير الى بث الحياة في الأجساد ونفخ الأرواح فيها) كآدم وعيسى بنفخة من الله مباشرة
أو بإعطاء الإذن من الله لبعض من عباده كي ينفخ الأرواح بإذن الله في ما يشاء من تماثيل يصنعها بيده من الطين ويجعلها كهيئة الطير وينفح فيها فيصبح التمثال طيراً يطير بجناحين
كما هو حال سيدنا عيسى بن مريم إذ يقول الى بني إسرائيل{........ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ........َ} [آل عمران : 49]
وكلام سيدنا عيسى (فأنفخ فيه) كأنها تشير الى الإذن من الله بنفخ الروح لأنه لو حذف الله من هذه الآية كلمة فأنفخ فيه أو أبدلها الله (فأقذفه فيكون طيراً) لما تغير علينا كقارئين من معنى الآية شيء لكن الله أرادها فأنفخ فيه ليحفذ فينا هذا الربط بين النفخ والروح
وهذه الآية تشير الى أن الحيوانات أيضاً فيها روح خاص بها وأشار الله إليها بالنفخ المرتبط في الروح في ما جاء به القرآن
وكذلك أعطى الله الإذن والأمر لملائكته كي تقبض أرواح البشر ونزعها من أجسادهم عند الموت
{۞ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة : 11]
وإن لم تكن كذلك فما هي مهمة هذا الملك الموكل بنا جميعا؟ً وكيف يتوفانا؟ وماذا فَعل هذا الملك بروح سيدنا آدم وسيدنا عيسى التي نفخها الله بهما عندما توفاهما
؟ هل دفنت مع جثامينهما؟ أم استرجعها منهما؟ وأين وضع الملك هاتين الروحين؟ هل لديكم أثارة من علم بهذا يذكر؟
كما وكَّل الله ملكاً خاصاً لينفخ في الصور يوم القيامة فتُنزَع الأرواح بلحظة واحدة من كل حي فيصعق ويموت كلُ البشر والجن وكلُ دابة تعيش على الأرض وكل مَلَكٍ أو مخلوق يعيش في السماء وذلك بنفخة واحدة في الصور من الملك الموكل بذلك
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68]
ثم(أي بعد حين) تُنفخ النفخة الأخرى فتعود جميع الأرواح الى أجساد جميع المخلوقات السابقة التي ماتت قديماً أو حديثاً في الأرض بنفخة الحياة الثانية من ذلك الصور فإذا هم سراعاً تنشق عن أجسادهم الارض وبلحظة واحدة تجدهم قيام ينظرون
ركزوا على كلمة (نفخ) في القرآن نجد وراءها أرواح تُنزع بنفخة وأرواح تُحيي الأنفس والأجساد بنفخة وأرواح تصعق بنفخة وما ذكر الله نفخ الروح في آدم وعيسى إلا ليعلمنا مشيراً إلى ارتباط النفخ بدخول الروح الى الأجساد ونزعها منها
وقال الله للملائكة
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص : 72]
وهذا دليل يشير الى أن في كل منا نحن بني آدم أرواحاً تنفخ كما نفخت في أبينا آدم وفق حديث رسول الله في الصحيحين الذي سأورده لا حقاً
وعندما أعاد الله الحياة الى سائر البشر يوم الحساب بنفخة الصور الثانية لم يُميِّز الله أبونا آدم الذي نفخ فيه الروح بنفخة خاصة منه تعالى وهذا مما يدل على ان روح آدم كأرواح بنيه لا فرق فيها
وأضيف ما جاء في هذه الآية
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان : 28]
نرى فيها أن الله يخاطب الناس جميعاً أي كافة البشر من أبناء آدم دون استثناء أحد ومبيناً لهم تعميم اسلوب الخلق والبعث قائلاً لهم (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يخاطبنا الله أنها صناعة واحدة والكتلوك واحد في طريقة خلقكم وبعثكم جميعاً كأنها النفس (الأولى) التي خلقتها وخلقت منها زوجها ونفخت فيها روحاً مني
ولا أبلَغ من هذا النص القرآني على أن الروح موجودة فينا جميعاً نحن أبناء النفس الواحدة الأولى التي خلقها وخلق منها زوجها (أبناء آدم وزوجه حواء)
فنحن وسائر المخلوقات نحتاج الى الروح لنحيا وعندما تنزع منا الروح من قبل الملك الموكل بنا عند انتهاء الأجل نموت
أما الله تعالى الأزلي ليس كسائر المخلوقات فهو الحي القيوم واهب الأرواح بأمره بنفخة منه أو بمن سخرهم لذلك من ملائكته وهو مالك الأرواح وتُدخل تلك الأرواح وتُنزع بنفخة من أمره أو إذنه
فالروح تنفخ في المُحدَث أما الله فهو الحي الأزَلي جعل الروح من أمره ولم يجعلها من ذاته العلية فالله يأمر الروح
وليست روح الله هي التي تحييه وإنما الله هو الذي يحيي بها العباد بنفخها في الأجساد
فلا تُفهم (نفخت فيه من روحي) أن لله روحاً كما لنا نحن أرواح، بل تفهم نفخت فيه من أمري روحاً بدون وسيط (أي نفخت في آدم الروح من أمري أنا) وليس بواسطة ملاك أذِنت له بفعل ذلك كما يحدث مع سائر البشر حيث يأتي الملك وينفخ فينا الروح ونحن في أرحام أمهاتنا وذلك كما ورد في الحديث الشريف: (عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، .....)
وهذا الحديث يؤكد أن نفخ الروح في الجنين يكون في رحم الأم كما يؤكد الله ذلك المعنى في هذه الآية من كتاب الله وتتطابق الآية والحديث :
{..........يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} [الزمر : 6]
ولله وحده أن يعطي الإذن لمَلك أو لنبي أو لمن يشاء لنفخ الروح
كما أعطى ذلك لسيدنا عيسى بالنفخ في تماثيل من الطين كهيئة الطير فتتحول الى طير حقيقي حي فيطير بإذن الله وجاء هذا الكلام في عدة آيات من كتاب الله بأن سيدنا عيسى كان يخلق من الطين طيوراً ثم ينفخ فيها فيحييها الله بإذنه فتطير في السماء
{.........وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.......ٌ} [المائدة : 110]
إذاً نستنبط مما سبق أن الله شاء ان تكون طريقة دخول وخروج الروح وبث الحياة في المخلوقات جميعها هو بواسطة النفخ سواء كان الذي ينفخ الروح هو ذات الله بشكل مباشر أو أعطى ذلك الإذن لمن يشاء من البشر كسيدنا عيسى عليه السلام أو لمن يشاء من الملائكة، كنافخ الصور الذي وكِّل بنفخة الحياة ونفخة الموت وهذه النفخة الروحية (التي لا يعلم طبيعتها إلا الله) هي التي تُحَوِل الجماد الى مخلوق حي وهي التي تحول المخلوق الحي الى جثة جامدة بإذن الله
فبهذه النفخة الربانية توهب الأرواح الى الأجساد وبنفخة أخرى تسلب تلك الروح من هذا الوعاء الجسدي الحامل لها
وجاء في هذه الآية من سورة لقمان
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان : 28]
أن الله يخاطب الناس جميعاً أي كافة البشر من أبناء آدم دون استثناء أحد ومبيناً لهم تعميم اسلوب الخلق والبعث وهو بنفخ الروح في الجسد قائلاً لهم (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يخاطبنا الله مبيناً لنا أنها صناعة واحدة والكتلوك واحد وموحد لخلقكم وبعثكم جميعاً كالنفس الأولى التي خلقتها وخلقت منها زوجها ونفخت فيها روحاً مني
ولا أبلغ من هذا النص القرآني على أن الروح موجودة فينا جميعاً نحن أبناء النفس الأولى التي خلقها وخلق منها زوجها (أبناء آدم وزوجه حواء)
إنني أحمد الله أني أستشعر هذه الروح في كياني وتشعرني بدفء الحياة التي تسري في جسدي
ويوم تفارقني قد أعاني من سكرات الموت عند نزع الروح من جسدي وقد قال الله عن هذا الإحساس
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق : 19]
وقال الله عن الروح حين خروجها
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)} [القيامة : 26-28]
وقال الله أيضاً
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85)} [الواقعة : 83-85]
فلو كانت النفس كما وصفوها أنها هي الإنسان وليست شيئاً مستقلاً عنه فكيف تخرج النفس من النفس حين الموت أي كيف يخرج الإنسان من ذاته ويبلغ التراقي ثم يبلغ الحلقوم من داخل نفسه بل هي روحه التي ينزعها ملك الموت منه نزعاً يجعله يعاني من سكرات الموت.
هذا رأيي وإستنباطي من آيات القرآن على اختلاف أماكن تواجدها في كتاب الله
فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي
وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً والله أعلم
ولكم جميعاً مودتي واحترامي
فقمت بهذا البحث استنباطاً من آيات الله
وأقول للإخوة المتحاورين الأعزاء عن حقيقة وجود الروح فينا نحن البشر
إن الجدل في موضوع الروح ليس مجدٍ ولا يغير اعتقاد المؤمن سواء اقتنع بهذا الرأي أو ذاك لأنه شأن إلهي
وأرى أن البعض غالباً مايطرح أفكاره متقيدً بالنص القرآني كما يأتي في كتاب الله ولا يعتمد طريقة الإستنباط في مقارنة وتقاطع بعض الآيات المكملة لبعضها الآخر في المعنى ولكل منا له أن يعتقد بما يجده صواباً بعد التفكر في آيات الله
{........ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44]
{... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ....} [النساء : 83]
فالإستنباط والتفكر وسيلتان لفهم مقصد الله في آياته القرآنية وليس النص الحرفي فقط
وهذا رأيي في هذا الموضوع
الحياة هي إلتقاء الروح بالجسد كما جاء في الآيتين التاليتين كنص قرآني ولا أجد أَفضَل من هذين النصين لنبني عليهما محاكمتنا لهذا الموضوع مع أننا لا نحتاج دائماً الى النص الصريح من الله بقدر ما نحتاج الى استنباط ذلك المعنى مما قاله تعالى حيث أحيا الله أبانا آدم بنفخة منه
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر : 29]
نفخة روح
وكذلك بث الروح في سيدنا عيسى بنفخة من الله في داخل أمه مريم وحدد الله في آية أخرى أن النفخ كان في رَحِمِها فأحيا الله سيدنا عيسى من بُييضة أنثى دون نطفة أب بأمره سبحانه وتعالى
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 91]
ولو أراد الله خلق الإثنان (آدم وعيسى) بدون أن يذكر لنا الروح فهو القادر على ذلك وما ذكرها لنا إلا ليؤكد ربط حياة الجسد بالروح
فلو قال الله عز وجل عن خلق آدم فإذا سويته ونفخت فيه الحياة فقعوا له ساجدين لكفى
ويحضرنا سؤال لماذا قال الله أنه نفخ الروح في مريم ولم يقل الله عن عيسى ونفخت فيه من روحنا
الجواب هو: إن الله يشير لنا أن نفخ الروح يكون في جسد ليس فيه حياة ولايمكن أن يحيا بدون هذه النفخة الربانية ولو كان خلية واحدة ولم يكن لعيسى جسد بل كان بُيَيضة في رحم أمه لا تصلح للحياة وقد تذهب مع دم الحيض، ولا يمكن أن تحيا لولا نفخة الروح الربانية هذه التي ذكرها الله لنا
وردت كلمة (نفخ) وجذورها اللغوية في القرآن 20 مرة لكن منها فقط 19 مرة تشير الى بث الحياة في الأجسام أو نزعها منها
أما الآية الوحيدة التي وردت في القرآن ولم يكن فيها النفخ يعني بث الروح والحياة في الأجساد فقد جاءت في سورة الكهف وهي تحكي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج {.........ِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف] 96
نستنتج منها ونستنبط من معناها أن النفخ في النار يؤجج أُوارها وتألقها فنفخ الهواء في جذوة النار الهامدة يؤججها فتعلو وتقوى لتقوم بمهمتها (وهنا كانت الغاية من النار إذابة الحديد) ثم لابد لهذه النار بعد ذلك أن تضعف وتهمد حتى تموت وتنطفئ في النهاية
كأن الله يشبه تلك النار بالإنسان فعندما تنفخ فيه الروح وهو جنين ضعيف في رحم أمه وتدب فيه الحياة والحركة ثم يكبر ويصبح انسان عالي الشأن وتشتد قوته وقد خلقه الله لمهمة أوكلها الله إليه وجب عليه أن ينهيها بنجاح قبل أن يضعف ويهمد ثم يموت
وقد جاء بعد ثلاث آيات من آية (قال انفخوا) في سورة الكهف آية توضح ارتباط النفخ في الأرواح
{۞ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف : 99]
لديَّ عدة مقارنات في كتاب الله بأن الكلمة أو الجملة التي يوافق عدد وجودها في القرآن الرقم 19 يكون فيها أمر إعجازي أو ذو قدسية يريدنا الله أن ننتبه إليه
(وجميع ما ورد في القرآن من جذور كلمة "نفخ" جميعها تقترن وتشير الى بث الحياة في الأجساد ونفخ الأرواح فيها) كآدم وعيسى بنفخة من الله مباشرة
أو بإعطاء الإذن من الله لبعض من عباده كي ينفخ الأرواح بإذن الله في ما يشاء من تماثيل يصنعها بيده من الطين ويجعلها كهيئة الطير وينفح فيها فيصبح التمثال طيراً يطير بجناحين
كما هو حال سيدنا عيسى بن مريم إذ يقول الى بني إسرائيل{........ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ........َ} [آل عمران : 49]
وكلام سيدنا عيسى (فأنفخ فيه) كأنها تشير الى الإذن من الله بنفخ الروح لأنه لو حذف الله من هذه الآية كلمة فأنفخ فيه أو أبدلها الله (فأقذفه فيكون طيراً) لما تغير علينا كقارئين من معنى الآية شيء لكن الله أرادها فأنفخ فيه ليحفذ فينا هذا الربط بين النفخ والروح
وهذه الآية تشير الى أن الحيوانات أيضاً فيها روح خاص بها وأشار الله إليها بالنفخ المرتبط في الروح في ما جاء به القرآن
وكذلك أعطى الله الإذن والأمر لملائكته كي تقبض أرواح البشر ونزعها من أجسادهم عند الموت
{۞ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة : 11]
وإن لم تكن كذلك فما هي مهمة هذا الملك الموكل بنا جميعا؟ً وكيف يتوفانا؟ وماذا فَعل هذا الملك بروح سيدنا آدم وسيدنا عيسى التي نفخها الله بهما عندما توفاهما
؟ هل دفنت مع جثامينهما؟ أم استرجعها منهما؟ وأين وضع الملك هاتين الروحين؟ هل لديكم أثارة من علم بهذا يذكر؟
كما وكَّل الله ملكاً خاصاً لينفخ في الصور يوم القيامة فتُنزَع الأرواح بلحظة واحدة من كل حي فيصعق ويموت كلُ البشر والجن وكلُ دابة تعيش على الأرض وكل مَلَكٍ أو مخلوق يعيش في السماء وذلك بنفخة واحدة في الصور من الملك الموكل بذلك
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68]
ثم(أي بعد حين) تُنفخ النفخة الأخرى فتعود جميع الأرواح الى أجساد جميع المخلوقات السابقة التي ماتت قديماً أو حديثاً في الأرض بنفخة الحياة الثانية من ذلك الصور فإذا هم سراعاً تنشق عن أجسادهم الارض وبلحظة واحدة تجدهم قيام ينظرون
ركزوا على كلمة (نفخ) في القرآن نجد وراءها أرواح تُنزع بنفخة وأرواح تُحيي الأنفس والأجساد بنفخة وأرواح تصعق بنفخة وما ذكر الله نفخ الروح في آدم وعيسى إلا ليعلمنا مشيراً إلى ارتباط النفخ بدخول الروح الى الأجساد ونزعها منها
وقال الله للملائكة
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص : 72]
وهذا دليل يشير الى أن في كل منا نحن بني آدم أرواحاً تنفخ كما نفخت في أبينا آدم وفق حديث رسول الله في الصحيحين الذي سأورده لا حقاً
وعندما أعاد الله الحياة الى سائر البشر يوم الحساب بنفخة الصور الثانية لم يُميِّز الله أبونا آدم الذي نفخ فيه الروح بنفخة خاصة منه تعالى وهذا مما يدل على ان روح آدم كأرواح بنيه لا فرق فيها
وأضيف ما جاء في هذه الآية
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان : 28]
نرى فيها أن الله يخاطب الناس جميعاً أي كافة البشر من أبناء آدم دون استثناء أحد ومبيناً لهم تعميم اسلوب الخلق والبعث قائلاً لهم (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يخاطبنا الله أنها صناعة واحدة والكتلوك واحد في طريقة خلقكم وبعثكم جميعاً كأنها النفس (الأولى) التي خلقتها وخلقت منها زوجها ونفخت فيها روحاً مني
ولا أبلَغ من هذا النص القرآني على أن الروح موجودة فينا جميعاً نحن أبناء النفس الواحدة الأولى التي خلقها وخلق منها زوجها (أبناء آدم وزوجه حواء)
فنحن وسائر المخلوقات نحتاج الى الروح لنحيا وعندما تنزع منا الروح من قبل الملك الموكل بنا عند انتهاء الأجل نموت
أما الله تعالى الأزلي ليس كسائر المخلوقات فهو الحي القيوم واهب الأرواح بأمره بنفخة منه أو بمن سخرهم لذلك من ملائكته وهو مالك الأرواح وتُدخل تلك الأرواح وتُنزع بنفخة من أمره أو إذنه
فالروح تنفخ في المُحدَث أما الله فهو الحي الأزَلي جعل الروح من أمره ولم يجعلها من ذاته العلية فالله يأمر الروح
وليست روح الله هي التي تحييه وإنما الله هو الذي يحيي بها العباد بنفخها في الأجساد
فلا تُفهم (نفخت فيه من روحي) أن لله روحاً كما لنا نحن أرواح، بل تفهم نفخت فيه من أمري روحاً بدون وسيط (أي نفخت في آدم الروح من أمري أنا) وليس بواسطة ملاك أذِنت له بفعل ذلك كما يحدث مع سائر البشر حيث يأتي الملك وينفخ فينا الروح ونحن في أرحام أمهاتنا وذلك كما ورد في الحديث الشريف: (عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، .....)
وهذا الحديث يؤكد أن نفخ الروح في الجنين يكون في رحم الأم كما يؤكد الله ذلك المعنى في هذه الآية من كتاب الله وتتطابق الآية والحديث :
{..........يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} [الزمر : 6]
ولله وحده أن يعطي الإذن لمَلك أو لنبي أو لمن يشاء لنفخ الروح
كما أعطى ذلك لسيدنا عيسى بالنفخ في تماثيل من الطين كهيئة الطير فتتحول الى طير حقيقي حي فيطير بإذن الله وجاء هذا الكلام في عدة آيات من كتاب الله بأن سيدنا عيسى كان يخلق من الطين طيوراً ثم ينفخ فيها فيحييها الله بإذنه فتطير في السماء
{.........وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.......ٌ} [المائدة : 110]
إذاً نستنبط مما سبق أن الله شاء ان تكون طريقة دخول وخروج الروح وبث الحياة في المخلوقات جميعها هو بواسطة النفخ سواء كان الذي ينفخ الروح هو ذات الله بشكل مباشر أو أعطى ذلك الإذن لمن يشاء من البشر كسيدنا عيسى عليه السلام أو لمن يشاء من الملائكة، كنافخ الصور الذي وكِّل بنفخة الحياة ونفخة الموت وهذه النفخة الروحية (التي لا يعلم طبيعتها إلا الله) هي التي تُحَوِل الجماد الى مخلوق حي وهي التي تحول المخلوق الحي الى جثة جامدة بإذن الله
فبهذه النفخة الربانية توهب الأرواح الى الأجساد وبنفخة أخرى تسلب تلك الروح من هذا الوعاء الجسدي الحامل لها
وجاء في هذه الآية من سورة لقمان
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان : 28]
أن الله يخاطب الناس جميعاً أي كافة البشر من أبناء آدم دون استثناء أحد ومبيناً لهم تعميم اسلوب الخلق والبعث وهو بنفخ الروح في الجسد قائلاً لهم (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يخاطبنا الله مبيناً لنا أنها صناعة واحدة والكتلوك واحد وموحد لخلقكم وبعثكم جميعاً كالنفس الأولى التي خلقتها وخلقت منها زوجها ونفخت فيها روحاً مني
ولا أبلغ من هذا النص القرآني على أن الروح موجودة فينا جميعاً نحن أبناء النفس الأولى التي خلقها وخلق منها زوجها (أبناء آدم وزوجه حواء)
إنني أحمد الله أني أستشعر هذه الروح في كياني وتشعرني بدفء الحياة التي تسري في جسدي
ويوم تفارقني قد أعاني من سكرات الموت عند نزع الروح من جسدي وقد قال الله عن هذا الإحساس
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق : 19]
وقال الله عن الروح حين خروجها
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)} [القيامة : 26-28]
وقال الله أيضاً
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85)} [الواقعة : 83-85]
فلو كانت النفس كما وصفوها أنها هي الإنسان وليست شيئاً مستقلاً عنه فكيف تخرج النفس من النفس حين الموت أي كيف يخرج الإنسان من ذاته ويبلغ التراقي ثم يبلغ الحلقوم من داخل نفسه بل هي روحه التي ينزعها ملك الموت منه نزعاً يجعله يعاني من سكرات الموت.
هذا رأيي وإستنباطي من آيات القرآن على اختلاف أماكن تواجدها في كتاب الله
فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي
وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً والله أعلم
ولكم جميعاً مودتي واحترامي
تعليقات
إرسال تعليق